فصل: تفسير الآيات رقم (41- 42)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏يَا أَيُّهَا ألَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَآءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ُلِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

قلت‏:‏ أصل العضل‏:‏ التضييق، يقال‏:‏ عضلَت الدجاجة ببيضها إذا ضاقت، ثم أُطلق عُرفًا على منع المرأة من التزوج‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ لا يحل لكم أن تمنعوا النساء من النكاح لترثوا ما لهن ‏{‏كرهًا‏}‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كانوا في الجاهلية إذا مات الرجل، وله امرأة كان قريبه من عصبته أحق بها من نفسها ومن غيره، فإن شاء تزوجها من غير صداق، إلا الصداق الأول الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوّجها غيره وأخذ صداقها ولم يُعطها شيئًا، وإن شاء عَضَلهَا وضيَّق عليها لتفتدى منه بما ورثت من الميت، أو تموت فيرثُها، وإن ذهبت إلى أهلها قبل أن يُلقِيَ وليُّ زوجها ثوبَه عليها فهي أحق بنفسها‏.‏ فكانوا على ذلك في أول الإسلام، حتى توفي أبو قَيس بن الأَسْلتَ الأنصاري، وترك امرأته «كبشة بنت معن الأنصارية»، فقام ابنٌ له من غيرها فطرح ثوبه عليها، تم تركها ولم يقربها، ولم ينفق عليها، يضارّها لتفتدى منه، فأتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ يا رسول الله؛ إن أبا قيس تُوفي ووَرِثَ نكاحي ابنُه، وقد أضرَّ بي وطوّل عليّ، فلا هو ينفق عليّ ولا يدخل بي، ولا يخلي سبيلي، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اقعدي في بيتك حتى يأتَي فيك أمرُ الله» قالت‏:‏ فانصرفتُ وسمعت بذلك النساءُ في المدينة فأتين النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسجد الفضيخ، فقلن‏:‏ يا رسول الله‏:‏ ما نحن إلا كهيئة كبشة، غير أنه لا ينكحنا الأبناء، ونكَحَنا أبناء العَم، فنزلت الآية‏.‏ فمعنى الآية على هذا‏:‏ لا يحل لكم أن تجعلوا النساء يُورثن عن الرجال كما يُورث المال‏.‏

وقيل‏:‏ الخطاب للأزواج الذين يمسكون المرأة في العصمة ليرثوا مالها، من غير غبطة بها، وإنما يمسكها انتظارًا لموتها، وقيل‏:‏ الخطاب للأولياء الذين يمنعون ولياتهم من التزوج ليرثوهن دون الزوج‏.‏

‏{‏ولا‏}‏ يحل لكم أيضًا أيها الأزواج أن ‏{‏تعضلوهن‏}‏، أي‏:‏ تحبسوهن؛ من غير حاجة لكم فيهن؛ ‏{‏لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن‏}‏ من الصداق افتداء فيه بإضراره‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏هي أيضًا في الأزواج الذين يمسكون المرأة ويُسيئُون عشرتها حتى تفتدى بصداقها‏)‏، ‏{‏إلا أن يأتين بفاحشة مبينة‏}‏، كالنشوز وسوء العشرة وعدم العفة، فيحل له حينئِذ حبسها حتى تفتدى منه بصداقها، فيأخذه خلعًا على مذهب مالك‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ لا يحل للمريد أن يُضيق على نفسه تضييقاً يُفضي إلى العطب، فالنفس كالبهيمة‏:‏ علفها واستخدامها، وقد قال عليه الصلاة والسلام‏:‏

«لا يكن أحدُكُم كالمنبت، لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى»‏.‏

فبعض الناس يسمعون أن من ضيَّق على نفسه أورثته العلوم، فيضيق عليها تضييقًا فاحشًا ليرث ذلك منها كرهًا، وإنما يمنعها من شهواتها الزائدة على قيام البنية، إلا أن تأتي بفاحشة مبينة، بحيث تطغى عليها، فيضيق عليها بما لا يُفضي إلى الهلاك، وهذا كله إنما ينفعه إذا صح مِلْكُه لها بالعقد الصحيح من الشيخ الكامل، وإلاَّ كان تعبه باطلاً، كمن يريد أن يرى امرأة غيره أو دابة غيره‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

ثم أمر الحق تعالى بحسن العشرة مع النساء، فقال‏:‏

‏{‏وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ وعاشروا النساء ‏{‏بالمعروف‏}‏ بأن تلاطفوهن في المقال وتجملوا معهن في الفعال، أو يَتَزَيَّنُ لها كما تتزين له‏.‏ قال الورتجبي‏:‏ كونوا في معاشرتهن في مقام الأنس وروح المحبة، وفرح العشق حيث أنتم مخصوصون بالتمكين والاستقامة والولاية، فإن معاشرة النساء لا تليق إلا في المستأنس بالله، كالنبي صلى الله عليه وسلم وجميع المستأنسين من الأولياء والأبدال، حيث أخبر صلى الله عليه وسلم عن كمال مقام أُنْسِه بالله ورؤيته لجمال مشاهدته حيث قال‏:‏ «حُبِّبَ إليّ من دنياكم ثَلاث‏:‏ الطيب، والنساء، وجُعلت قرة عيني في الصلاة»‏.‏

ثم قال‏:‏ عن ذي النون‏:‏ المستأنس بالله يستأنس بكل شيء مليح ووجه صبيح، وبكل صوت طيب وبكل رائحة طيبة، ثم قال‏:‏ عن ابن المبارك‏:‏ العشرة الصحيحة‏:‏ ما لا يورثك الندم عاجلاً ولا آجلاً، وقال أبو حفص‏:‏ المعاشرة بالمعروف‏:‏ حسن الخلق مع العيال فيما ساءك‏.‏ ه‏.‏

‏{‏فإن كرهتموهن‏}‏ فاصبروا ‏{‏فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا‏}‏ إما ولدًا صالحًا أو عاقبة حسنة في الدين‏.‏ قال ابن عمر‏:‏ إن الرجل يستخير الله فيخار له فيسخط على ربه، فلا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو قد خير له‏.‏ ه‏.‏ حكى أن أبا الإمام مالك رضي الله عنه تزوج امرأة فدخل عليها فوجدها سوداء، فبقي متفكرًا ولم يقربها، فقالت له‏:‏ هل استخرت ربك‏؟‏ فقال‏:‏ نعم، فقالت‏:‏ أتَتَّهمُ ربك، فدخل بها، فحملت بالإمام مالك صاحب المذهب‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يَفْرك مؤمنٌ مَؤمنة أي‏:‏ لا يُبْغِضها إن سخط منها خُلقَا رضي منها آخر» قال الورتجبي‏:‏ قيل‏:‏ غيب عنك العواقب؛ لئلا تسكن إلى مألوف، ولا تفر من مكروه‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا طهرت النفس من البقايا، وكملت فيها المزايا، وانقادت بكليتها إلى مولاها، وجب الإحسان إليها والصلح معها ومعاشرتها بالمعروف، فإنما تجب مجاهدتها ما دامت كافرة فإذا أسلمت وانقادت وجب محبتها والإحسان إليها‏.‏ فإن كرهتها في حال اعوجاجها فجاهدتها ورضتها حتى استقامت كان في عاقبة ذلك خيرٌ كثير، وعادت تأتي إليك بالعلوم اللدنية تشاهد فيها أسرارًا ربانية‏.‏

قال الورتجبي‏:‏ كل أمر من الله سبحانه جاء على مخالفة النفس امتحانًا واختبارًا، والنفس كارهة في العبودية فإذا ألزمت عليها حقوق الله بنعت الرياضة والمجاهدة واستقامت في عبودية الله، أول ما يطلع على قلبك أنوار جنان القرب والمشاهدة، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأوَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 40، 41‏]‏، وفي أجواب ظلام المجاهدة للعارفين شموس المجاهدات وأقمار المكاشفات‏.‏ ه‏.‏ المراد منه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 21‏]‏

‏{‏وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ‏(‏20‏)‏ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ‏(‏21‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏بهتانًا‏}‏‏:‏ حال، أو على إسقاط الخافض‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وإن أردتم‏}‏ أن تبدلوا زوجًا ‏{‏مكان زوج‏}‏ أخرى؛ بأن تُطلقوا الأولى وتتزوجوا غيرها، وقد كنتم أعطيتم ‏{‏إحداهن قنطارًا‏}‏ أو أقل أو أكثر، ‏{‏فلا تأخذوا منه شيئًا‏}‏ بل أدوه لها كاملاً‏.‏ ثم وبَّخهم على ما كانوا يفعلون في الجاهلية، فقال‏:‏ ‏{‏أتأخذونه بهتانًا وإثمًا مبينًا‏}‏، أي‏:‏ مباهتين وآثمين، أو بالبهتان والإثم الظاهر، والبهتان‏:‏ الكذب الذي يبهت المكذوب عليه، رُوي أن الرجل كان إذا أراد أن يتزوج امرأة جديدة، بهت التي عنده بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه في تزوج الجديدة، فَنُهُوا عن ذلك‏.‏

ثم استعظم ذلك فقال‏:‏ ‏{‏وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض‏}‏ بالمماسة والجماع حتى تقرر الصداق واستحقته بذلك، وقد ‏{‏أخذن منكم ميثاقاً غليظًا‏}‏ وهو حسن الصحبة، أو الإمساك بالمعروف والتسريح بالإحسان، أو تمكينها نفسها منه، فإنها ما مكنته إلا لوفاء العهد في الصداق ودوام العشرة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا كان العبد مشتغلاً بجمع دنياه، عاكفًا على حظوظه وهواه، ثم استبدل مكان ذلك الانقطاع إلى مولاه والاشتغال بذكر الله، حتى أفضى إلى شهود أنوار قدسه وسناه، فلا ينبغي أن يرجع إلى شيء خرج عنه لله، ولا يلتفت إلى ما ترك من أمر دنياه، فإن الرجوع في الشيء من شيم اللئام وليس من شأن الكرام، وتأمل ما قاله الشاعر‏:‏

إذا انْصَرَفَتْ نفسي عن الشيء لم تكن *** إليه بوجهِ آخرَ الدهرِ تُقبِلُ

وكيف تأخذُ ما خرجت عنه لله، وقد أفضيت إلى شهود أنوار جماله وسُكْنَى حماه، فاتحد عندك كل الوجود، وكل شيء عن عين بصيرتك مفقود، بعد أن أخذ عليك مواثيق العهود، ألا ترجع إلى ما كان يقطعك عن حضرة الشهود، وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا ‏(‏22‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ أوقع ‏{‏ما‏}‏ على ما يعقل لقلة عقل النساء، كما تقدم، أو مصدرية، والاستثناء منقطع أو متصل على وجه المبالغه في التحريم، أي لا تنكحوا ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف لآبائكم إن قدرتم عليه، فهو كقول الشاعر‏:‏

لا عَيُبَ فِيِهمْ غيَر أَنَّ سُيُوفَهُم بِهِنَّ *** فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ولا تتزوجوا ما تزوج به ‏{‏آباؤكم من النساء‏}‏ بالعقد في الحرائر والوطء في الإماء، ‏{‏إلا ما قد سلف‏}‏ فإن الله قد عفا عنكم بعد فسخه وردَّه، ‏{‏إنه كان فاحشة‏}‏ عظيمة عند الله، ما أحله لأحد من الأمم قبلكم، ‏{‏ومقتًا‏}‏ أي‏:‏ ممقوتًا فاعله عند الله عند ذوي المروءات من عباد الله، وكان يسمى ولد الرجل من امرأة أبيه مَقيتًا ومقتيًا‏.‏ ‏{‏وساء سبيلاً‏}‏، وبئس طريقًا لمن يريد أن يسلكه بعد التحريم‏.‏

فالمراد بالنكاح في الآية‏:‏ العقد، فعلى هذا لا تحرم المرأة على الولد إذا زنا بها أبوه على المشهور، قال في الرسالة‏:‏ ولا يحرم بالزنا حلال‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ ما جرى في آباء البشرية يجري في آباء الروحانية من طريق الأدب لا من طريق الشرع، فلا ينبغي للمريد أن يتزوج بامرأة شيخه، مات عنها أو طلقها، فإن ذلك قبيح ومقت عند أرباب الأدب، وأما بنت الشيخ فإن قدر على القيام بتعظيمها فلا بأس، وقد تزوج سيدنا علي كرم الله وجهه بنت سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن السلامة في الترك أكثر‏.‏

وهنا إشارة أخرى أرق، وهي أن يشير بالنساء إلى الأحوال، فلا ينبغي للفقير أن يتعاطى أحوال الشيخ، ويفعل مثله‏.‏ فإن الشيخ في مقام وهو في مقام، فإذا رجع الشيخ إلى الأسباب وتعاطى العلويات، فلا يقتدى به‏.‏ إلا أن يدرك مقامه، وكان شيخ شيخنا يقول‏:‏ ‏(‏لا تقتدوا بالأشياخ في أفعالهم، وإنما اقتدوا بهم في أقوالهم، فإن أقوالهم لكم ولهم، وأفعالهم خاصة بهم‏)‏‏.‏ إلا ما قد سلف لهم من الأحوال في حال سيرهم، فخذوها وسيروا من حيث ساروا، حتى تدركوا ما أدركوا، وافعلوا ما شئتم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 24‏]‏

‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏23‏)‏ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً والْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏كتاب الله عليكم‏}‏‏:‏ مصدر مؤكد‏.‏ أي‏:‏ كتب الله ذلك كتاباً، أو على الإغراء‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏حرمت عليكم‏}‏ من النساء أصنافٌ‏:‏ منها بالنسب ومنها بالرضاع ومنها بالمصاهرة‏:‏ فأما التي تحرم بالنسب فهي ‏{‏أمهاتكم‏}‏، وهي الأم، والجدة من الأم ومن الأب ما عَلَوْن، ‏{‏وبناتكم‏}‏ وهي البنت وبنت الابن، وبنت البنت ما سفلن، ‏{‏وأخواتكم‏}‏ وهي الأخت الشقيقة والتي للأب والأخت للأم، ‏{‏وعماتكم‏}‏ وهي أخت الوالد وأخت الجد ما علت، شقيقة أو لأب أو لأم، ‏{‏خالاتكم‏}‏ وهي أخت الأم وأخت الجدة ما علت، شقيقة أو لأب أو لأم، ‏{‏وبنات الأخ‏}‏ الشقيق، أو للأب، وما تناسل منهم‏.‏ ‏{‏وبنات الأخت‏}‏، فيدخل كل ما تناسل من الأخت الشقيقه أو للأب أو للأم‏.‏

والضابط في ذلك‏:‏ أنه يحرم على الرجل أصوله وإن علت، وفصوله وإن سفلت، وفصول أبويه ما سفلت، وأول فصل من كل أصل متقدم على أبويه‏.‏

ثم ذكر ما يحرم بالرضاع، فقال‏:‏ ‏{‏وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة‏}‏ ذلك تعالى صنفين، وحرمت السُّنَّةُ كل ما يحرم من النسب‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» فيدخل الأصناف السبعة، وهي الأم من الرضاع والبنت والأخت والعمة والخالة وبن الأخ وبنت الأخت‏.‏

ثم ذكر ما يحرم بالمصاهرة، فقال‏:‏ ‏{‏وأمهات نسائكم‏}‏، وتقدمت زوجة الأب، وسيأتي حليلة الابن، ‏{‏وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم‏}‏ لا مفهوم لهذا القيد، لكنه جرى مجرى الغالب، فهي محرمة، كانت في حجره أم لا، على قول الجمهور، ورُوي عن علي رضي الله عنه أنه أجاز نكاحها إن لم تكن في حجره‏.‏ وأما قوله‏:‏ ‏{‏اللاتي دخلتم بهن‏}‏ فهو معتبر إجماعًا، فلو عقد على المرأة ولم يدخل بها، فله طلاقها ويأخذ ابنتها، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم‏}‏ أن تنكحوهن‏.‏

‏{‏وحلائل أبنائكم‏}‏ وهي التي عقد عليها الابن فحلت له، فتحرم على الأب بمجرد العقد‏.‏ والحاصل‏:‏ أن زوجة الأب وزوجة الابن وأم الزوجة يحرمن بالعقد، وأما بنت المرأة فلا تحرم إلا بالدخول بأمها، فالعقد على البنات يُحرم الأمهات، والدخول بالأمهات يُحرم البنات‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين من أصلابكم‏}‏ احترز به من زوجة المتبنِّي فلا تحرم حليلته، كقضية زيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏وأن تجمعوا بين الأختين‏}‏، شقيقتين أو للأب أو للأم، وهذا في النكاح، وأما في الملك دون الوطء فلا بأس، أما في الوطء فمنعه مالك والشافعي وأبو حنيفة، وأجازه الظاهرية، ‏{‏إلا ما قد سلف‏}‏ أي‏:‏ في الجاهلية، فقد عفا عنكم، ‏{‏إن الله كان غفورًا رحيمًا‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏كانت العرب تُحرم كل ما حرمت الشريعة إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين، فلذلك ذكر الحق تعالى‏:‏ ‏{‏إلا ما قد سلف‏}‏ فيهما‏.‏

‏{‏و‏}‏ حَرم الله تعالى ‏{‏المحصنات من النساء‏}‏ وهُنَّ اللاتي في عصمة أزواجهن، فلا يحل نكاحهن ما دُمْنَ في عصمة الزوج، ‏{‏إلا ما ملكت أيمانكم‏}‏ من الغنيمة، فإذا سُبيت الكافرة، ولها زوج، جاز لمن ملكها أن يطأها بالملك بعد الاستبراء، قال في المختصر‏:‏ وهدم السبيْ النكاحَ، إلا أن تُسبى وتُسلْم في عدتها فهو أحق بها، وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشًا إلى أَوْطَاس، فأصابوا سبيًا من العدو، ولهن أزواج من المشركين فتأثموا من غشيانهن، فنزلت الآية مُبيحة لذلك، ‏{‏كتاب الله عليكم‏}‏ أي‏:‏ كتب الله ذلك عليكم كتاباً، وهو ما حرّم في الآية من النساء‏.‏

الإشارة‏:‏ اعلم أن الإنسان لا يصير كاملاً عارفًا حتى يولد ثلاث مرات بعد الأم الحسية، أولها‏:‏ خروجه من بطن حب الدنيا الدنية، ثم من الغفلة والشهوات الجسمانية، ثم من ضيق الأكوان الظلمانية، إلى فضاء المشاهدة والمعاينة، وقال بعض الأولياء‏:‏ ‏(‏ليس منا من لم يولد مرتين‏)‏‏:‏ فاعتبر الأولى والثالثة، فإذا خرج الإنسان من هذه البطون حرَّم الله عليه نكاحها والرجوع إليها‏.‏

وكذا يحرم عليه الرجوع إلى ما تولد منه من الزلات، والأحوال الظلمانية، وما كان ألفه وتواخى معه من البطالات والمألوفات، وما وجد عليه أسلافه من التعصبات والحميات والرئاسات، ولا فرق بين ما واجهه من ذلك من قبل الآباء والأمهات، وكذلك ما ارتضع من ثدي الشهوات من لِبان الغفلة، وتراكم الأَكِنَّات، فليبادر إلى تحريمها، وفطام نفسه عنها، قبل تحكمها، كما قال البوصيري رضي الله عنه‏:‏

والنَّفْسُ كالطِّفلِ إنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ *** عَلَى حُبِّ الرَّضاعِ وإنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِم

وكذا يحرم عليه، صحبة من ارتضع معه في هذا الثدي قبل الفطام؛ من الأخوة والأخوات، وكذا أمهات الخطايا، وهي حب الدنيا والرياسة والجاه، وكذلك حرمت عليكم ربائب العلائق والعوائق، لتدخلوا بلاد الحقائق، فإن لم تكونوا من أهل الحقائق فلا جناح عليكم إذ كنتم من عوام الخلائق، وكذلك يحرم عليكم ما حل لأبناء جنسكم من تعاطي الأسباب والاشتغال بها عن خدمة رب الأرباب، وأن تجمعوا بين حب الدنيا ومحبة المولى‏.‏ قال الشافعي رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏من ادَّعى أنه جمَعَ بين حب الدنيا وحب خالقها، فقد كذب‏)‏‏.‏

إلا ما قد سلف في أيام البطالة، وكذا يحرم على المريد المتجرد المستشرف على المعاني تعاطى العلوم الظاهرة، التي دخل بها أهل الظاهر وأفتضوا بكارتها إلا ما ملكه قبل التجريد، فلا يضره إن غاب عنها في أسرار التوحيد، والله تعالى أعلم بأسرار غيبه‏.‏

ثم ذكر الحق تعالى ما يحلّ من النساء، فقال‏:‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏وأُحِلَّ‏}‏ عطف على الفعل العامل في «كتاب الله عليكم» أي‏:‏ كتب الله عليكم تحريم ما ذكر، وأحل ما سوى ذلك‏.‏ ومن قرأ بالبناء للمفعول فعطف على «حُرمت»‏.‏ و‏{‏أن تبتغوا‏}‏ مفعول لأجله، أي‏:‏ إرادة أن تبتغوا‏.‏ أو بدل من ‏{‏وراء ذلكم‏}‏، و‏{‏محصنين‏}‏ حال من الواو‏.‏ والسفاح‏:‏ الزنا، من السفح وهو الصب، لأنه يصب المنيّ في غير محله‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وأُحل لكم‏}‏ أن تتزوجوا من النساء ما سوى ذلكم المحرمات، وما سوى ما حرمته السنة بالرضاع، كما تقدم، والجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، فقد حرَمتْه السُنة، وإنما أحل لكم نكاح النساء إرادة أن تطلبوا بأموالكم الحلال، فتصرفوها في مهور النساء‏.‏‏.‏‏.‏ حال كونكم ‏{‏مُحصنين‏}‏ أي‏:‏ أعفة متحصنين بها من الحرام، ‏{‏غير مسافحين‏}‏ أي‏:‏ غير زناة، تصبون الماء في غير موضعه، ‏{‏فما استمتعتم به منهن‏}‏ أي‏:‏ من تمتعتم به من المنكوحات ‏{‏فآتوهن أجورهن‏}‏ أي‏:‏ مهورهن، لأن المهر في مقابلة الاستمتاع ‏{‏فريضة‏}‏، أي‏:‏ مفروضة مقدرة، لا جَهْلَ فيها ولا إبهام، ‏{‏ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به‏}‏ من زيادة على المهر المشروط، أو نقص منه، ‏{‏من بعد الفريضة‏}‏، التي وقع العقد عليها، ‏{‏إن الله كان عليمًا‏}‏ بمصالح خلقه، ‏{‏حكيمًا‏}‏ فيما شرع من الأحكام‏.‏

وقيل قوله‏:‏ ‏{‏فما استمتعتم به‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلى آخره‏.‏ نزل في نكاح المتعة، التي كانت ثلاثة أيام في فتح مكة، ثم نُسِخَ بما رُوي عنه عليه الصلاة والسلام أنه أباحه، ثم أصبح يقول‏:‏ «أيُّهَا النَّاسِ، إِنِّي كُنْتُ أمرتكم بالاسِتْمْتَاعِ مِنَ هذه النَّساء، ألا إنَّ اللهَ حَرَمَ ذَلِكَ إلىَ يَوْمِ القِيَامةِ» وهو النكاح المؤقت بوقت معلوم، سُمي به لأن الغرض منه مجرد الاستمتاع‏.‏ وتمتعها بما يُعطى لها‏.‏ وجوَّزه ابن عباس رضي الله عنه ثم رجع عنه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ يقول الحق جل جلاله من طريق الإشارة‏:‏ إذا خرجتم من بطن الشهوات، ورفضتم ما كنتم عليه من العوائد والمألوفات، وزهدتم فيما يشغل فكرتكم من العلوم الرسميات، حل لكم ما وراء ذلكم من العلوم اللدنية والأسرار الربانية، التي هي وراء طور العقول ولا تدرك بالطروس ولا بالنقول، وإليها أشار ابن الفارض رضي الله عنه حيث قال‏:‏

ولا تكُ مِمَنْ طَيّشَتْهُ طروسه *** بحيثُ استخفت عقَلَهُ واستفزّتِ

فَثمَ وراء النّقلِ عِلْمٌ يَدِقُّ عن *** مَدارِكِ غايات العقولِ السليمهِ

تَلَقيْتُه منّي وعني أَخَذْتهُ *** ونفسي كانت من عَطاءٍ مُمدَّهِ

أردنا منكم أن تبتغوا ببذل أموالكم ومُهجكم تلك العلوم المقدسة، والأسرار المطهرة، متحصنين من دنس الحس والهوى، غير مباشرين لنجاسة الدنيا، ولا مصطحبين مع أهلها، لتتمتعوا بشهود أسرارنا، وأنوار قدسنا، فما استمتعتم به من ذلك، فصونوه من غير أهله، ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من إعطائه لأهله، من بعد حفظه عمن لا يستحقه، والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 28‏]‏

‏{‏وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏25‏)‏ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏26‏)‏ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ‏(‏27‏)‏ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ فَإنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

قلت‏:‏ الطول‏:‏ الغنى والسعة، ويطلق على العلو، مصدر طال طَوْلاً، وهو مفعول ‏{‏يستطع‏}‏، أو مصدر له لتقارب معناهما، و‏{‏أن ينكح‏}‏ بدل منه على الأول، أو مفعول به على الثاني، أي‏:‏ لأن ينكح، و‏{‏محصنات غير مسافحات‏}‏، حالان، والعامل فيه‏:‏ ‏{‏أنكحوهن‏}‏، والخدن‏:‏ الخليل‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ومن لم يستطع منكم طَوْلاً‏}‏ أي‏:‏ لم يجد غني يقدر به على نكاح ‏{‏المحصنات‏}‏، أي‏:‏ الحرائر ‏{‏المؤمنات‏}‏، فليتزوج من ما ملكت أيمانكم، من الإماء المؤمنات دون الكافرات، فإن أظهرت الإيمان فاكتفوا بذلك، وعلم الباطن لا يعلمه إلا الله، ‏{‏والله أعلم بإيمانكم‏}‏ فلا يمنعكم من نكاحهن خوف المعرة، فإنما أنتم جنس واحد، ودينكم واحد، ‏{‏بعضكم من بعض‏}‏ فلا تستنكفوا من نكاحهن، ‏{‏فانكحوهن بإذن أهلهن‏}‏، أي أربابهن، حتى يعقدوا لكم نكاحهن، ‏{‏وآتوهن أجورهن‏}‏‏:‏ أي‏:‏ مهورهن، وهن أحق به دون ساداتهن، على مذهب مالك، ‏{‏بالمعروف‏}‏ من غير مطل، ولا نقص، على ما تقتضيه السنة‏.‏ حال كونهن ‏{‏محصنات‏}‏ أي‏:‏ عفيفات ‏{‏غير مسافحات‏}‏ أي‏:‏ غير زانيات ‏{‏ولا متخذات أخدان‏}‏، أي‏:‏ أصحاب يزنون بهن‏.‏ وكان في الجاهلية مِن النساء مَنْ تتخذ صاحبًا واحدًا تزني معه خاصة، ومنها من لا ترد يد لامس‏.‏

قال ابنُ جزي‏:‏ مذهب مالك وأكثر أصحابه أنه لا يجوز للحر نكاح الأمة إلا بشرطين‏:‏ أحداهما‏:‏ عدم الطول؛ وهو ألاَّ يجد ما يتزوج به حُرة، والآخر‏:‏ خوف العنت؛ وهو الزنا‏.‏ لقوله بعد هذا‏:‏ ‏{‏ذلك لمن خشي العنت منكم‏}‏، وأجاز ابن القاسم نكاحهن دون الشرطين، على القول بأن دليل الخطاب لا يُعتبر، واتفقوا على اشتراط الإسلام في الأمة، لقوله‏:‏ ‏{‏من فتياتكم المؤمنات‏}‏ إلا أهل العراق فلم يشترطوه‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ فمن لم يستطع أن ينكح أبكار الحقائق، لكونه لم يقدر أن يدفع عن قلبه الشواغل والعلائق، فليتنزل لنكاح العلوم الرسمية والأعمال الحسية، بأخذها من أربابها، ويحصنها بالإخلاص في أخذها، ويقوم بحقها بقدر الإمكان، وهو بذلها لأهلها والصبر على نشرها، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، فإن صح قصده، وخلص عمله، قيض الله له وليًا من أوليائه يغنيه بالله، حتى يصير من الأغنياء به، فيتأهل لنكاح الحرائر، ويلتحق بأولياء الله الأكابر، ‏{‏وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 20‏]‏‏.‏

قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه لما تكلم على ثمرات المحبة قال‏:‏ فترى النفس مائلة لطاعته، والعقل متحصنًا بمعرفته، والروح مأخوذة في حضرته، والسر مغمورًا في مشاهدته، والعبد يستزيد من حبه فيُزاد ويفاتح بما هو أعذب من لذيذ مناجاته، فيكسى حُلل التقريب على بساط القُربة، ويمس أبكار الحقائق وثيبات العلوم‏.‏

ه‏.‏ فعلم الحقائق أبكار، وما يوصل إليه من علوم الطريقة ثيبات حرائر، وما سواها من علوم الرسوم إماء بالنسبة إلى غيرها، والله تعالى أعلم‏.‏

ثم ذكر حدَّ الأمَةِ إذا زنت، فقالت‏:‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

قلت‏:‏ أحصن الرجل بفتح الهمزة وضمها‏:‏ صار محصنًا بالفتح والكسر، وهذا مما اتحد فيه البناء للفاعل والمفعول‏.‏ وقيل بالفتح، معناه‏:‏ أسلم، وبالضم‏:‏ تزوج‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ إن الإماء إذا تزوجن ‏{‏فإن أتين بفاحشة‏}‏، وهو الزنا، فعليهن نصف ما على الحرة من الحد، وهو خمسون، لأن حد البكر مائة‏.‏ ويفهم منه أنها لا ترجم؛ لأن الرجم لا يتبعض‏.‏ وكذلك الذكور من العبيد عليهم نصف الحدود كلها، ولا رجم عليهم، وسمَى الحد عذابًا، كقوله‏:‏ ‏{‏وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 2‏]‏‏.‏

الإشارة‏:‏ بقدر ما يعلو المقام يُشدد العقاب، وبقدر ما يحصل من القرب يُطلَب الآداب، فليست المعصية في البعد كالمعصية في القرب، وليس يُطلب من البعيد ما يُطلب من القريب، وانظر إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال تعالى لهن‏:‏ ‏{‏يَا نِسَآءَ النَّبِيّ مَن يَأَتِ مِنكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَاَبُ ضِعْفَيْنِ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 30‏]‏‏.‏ وما ذلك إلا لحظوتهن وشدة قربهن من الله‏.‏ ولذلك كان لا يدخل الحضرة إلا أهل الآداب والتهذيب، بعد التدريج والتدريب، وتأمل قضيةَ الجنيد، حيث قيل له في المنام‏:‏ مثلُك لا يُرضى منه هذا، حيث خطر على قلبه الاعتراض على السائل، غير أن المقربين يعاتبون، ويردون إلى الحضرة، وأهلُ البُعد يزيدون بُعداً، ولكن لا يشعرون، والله تعالى أعلم‏.‏

ثم ذكر شرط تزوج الأمة لعادم الطَوْل، فقال‏:‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً‏}‏

قلت‏:‏ العنت‏:‏ المشقة والضرر، ولا ضرر أعظم من مواقعة الإثم، ولا سيما بأفحش الفواحش؛ وهو الزنا، ‏{‏يريد الله ليبين لكم‏}‏، أي‏:‏ لأن يُبين، واللام زائدة في المفعول، لتأكيد معنى الاستقبال اللازم للإدارة‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي‏:‏ نكاح الإماء إنما أبَحْتُهُ لمن خشي الوقوع في الزنا، الذي هو أقبح الفواحش، فنكاح الأمةُ، وإرقاق الولد يباع في الأسواق أخف من الزنا‏.‏ ‏{‏وأن تصبروا‏}‏ عن نكاحهن، مع التعفف عن الزنا، ‏{‏خير لكم‏}‏ لئلا يرق أولادكم‏.‏ وعن أنس قال‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «مَنْ أرادَ أنْ يَلْقَى اللهَ طَاهِرًا مُطَهَّرًا فَلْيَتَزَوَّج الْحَرائِر»

وقال أبو هريرة‏:‏ سمعته صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «الحَرَائِر صَلاحُ البَيْتَ، والإمَاءُ هَلاكُ البَيت»‏.‏

‏{‏والله غفور‏}‏ لكم فيما سلف من المخالفة، ‏{‏رحيم‏}‏ بكم، حيث رخَّص لكم عند خوف الإثم نكاحَ الأمَة، ‏{‏يريد الله ليبين لكم‏}‏ شرائع دينكم، ومصالح أموركم، ‏{‏ويهديكم سنن الذين من قبلكم‏}‏ أي‏:‏ مناهج مَنْ تقدمكم من أهل الرشد، كالأنبياء والصالحين، لتسلكوا مناهجهم، كحفظ الأموال والأنساب، وتحريم الأمهات والبنات والأخوات، فإنهن محرمات على من قبلكم، ‏{‏ويتوب عليكم‏}‏ أي‏:‏ يغفر ذنوبكم الماضية، أو يرشدكم إلى التوبة، أو يمنعكم من المعاصي بالعصمة‏.‏ ‏{‏والله عليم‏}‏ بما أسلفتم وما تستقبلونه من أفعالكم، ‏{‏حكيم‏}‏ بما دبر وأبرم‏.‏

‏{‏والله يريد أن يتوب عليكم‏}‏ كرره توطئة لقوله‏:‏ ‏{‏ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا‏}‏ عن الحق ‏{‏ميلاً عظيمًا‏}‏ بموافقتهم على اتباع الشهوات واستحلال المحرمات، وكأنه تعالى يقول‏:‏ إنا نريد توبتكم ورشدكم، والذين يتبعون الشهوات يريدون ميلكم وإضلالكم، والمراد بهم الزناة؛ لأنهم يودون أن يكون الناس كلهم زناة، وأمَّا من تعاطى شهوة النكاح في الحلال، فإنه متبع للحق لا لهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا فَإنِّي مُبَاهِ بِكُمُ الأممَ يَوم القِيَامة» وقد كان سيدنا علي كرم الله وجهه أزهدَ الصحابة، وكان له أربع حرائر وسبعُ جواري سُرِّيَّاتٍ، وقيل‏:‏ سبع عشرة، وقيل‏:‏ المراد بهم اليهود والنصارى، لأن اليهود يُحلون الأقارب من الأب وبنات الأخ وبنات الأخت‏.‏ وقيل‏:‏ المجوس‏.‏

‏{‏يريد الله أن يخفّف عنكم‏}‏ فلذلك شرع لكم الشريعة الحنيفية السمحة السهلة، ورخص لكم عند المضايق في نكاح الأمة‏.‏ ‏{‏وخُلق الإنسانُ ضعيفًا‏}‏ في كل شيء، لأنه خُلق من ضعف، ويؤول إلى ضعف، أسير جَوعة، صريع شبعة، وخصوصًا عن شهوة النساء، فإنه لا يصبر عن الجماع، ولا يكون في شيء أضعفَ منه في أمر النساء، وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏ألا تروني أني لا أقوم إلا رفدًا، ولا آكل إلا ما لُيِّن لي، وقد مات صاحبي يعني ذكره منذ زمان، وما يسرني أني خلوت بامرأة لا تحل لي، وأن لي ما تطلع عليه الشمس، مخافة أن يأتيني الشيطان فيحركه، على أنه لا سمع ولا بصر‏)‏‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ ثماني آيات في سورة النساء، هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت، ‏{‏يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 26‏]‏، ‏{‏وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 27‏]‏، ‏{‏يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 28‏]‏، ‏{‏إن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 31‏]‏ الآية، ‏{‏إنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48‏]‏ الآية، ‏{‏إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 40‏]‏، ‏{‏وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظلِمْ نَفْسَهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 110‏]‏ الآية، ‏{‏مَّا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 147‏]‏ الآية‏.‏ ه‏.‏

الأشارة‏:‏ إنما ينزل المريد إلى العلوم الرسمية، أو الأعمال الحسية، إذا خشي الانمحاق أو الاصطلام في بحر الحقائق، وإن صبر وتماسك، حتى يتقوى على حمل أعبائها، فهو خير له، لأن الرجوع إلى الحس، لا يؤمن من الحبس، والله غفور لمن تنزل لعلة ما تقدم، رحيم حين جعل له الرخصة، ‏{‏يريد الله ليبين لكم‏}‏ سلوك الطريق إلى عين التحقيق، ويهديكم طرق الوصول، كما هدى مَنْ قبلكم، ويتوب فيما خطر ببالكم، من الفترة أو الوقفة، والله يريد أن يتعطف عليكم، لترجعوا إليه بكليتكم‏.‏

وأهل الغفلة المنهمكون في الشهوات، يريدون ميلكم عن طريق الوصول إلى حضرة ربكم، يرد الله أن يخفف عنكم، فلا يُحملكم من الواردات إلا ما تطيقه طاقتكم، لأنكم ضعفاء إلا إن قوَّاكُم‏.‏ اللهم قونا على ما نريد، وأيدنا فيما تريد، إنك على كل شيء قدير‏.‏

ولمّا ذكر ما يتعلق بحفظ أموال اليتامى وأموال النساء، وانجر الكلام إلى ما يتعلق بهن من حدودهن، وما يحل وما يحرم منهن، ذكر ما بقي من حفظ أموال الرجال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 30‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ‏(‏29‏)‏ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

قلت‏:‏ الاستثناء منقطع، وكان تامة لمن رفَع، وناقصه لمن نصب، واسمها‏:‏ ضمير الأموال، على حذف مضاف، إلاَّ أن تكون الأموال أموالَ تجارة‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل‏}‏ الذي لا تُجوزه الشريعة، كالربا والقمار، والغصب والسرقة، والخيانة والكهانة والسحر وغير ذلك ‏{‏إلا أن تكون‏}‏، أي‏:‏ لكن إن وجدت ‏{‏تجارة‏}‏ صحيحة ‏{‏عن تراضٍ منكم‏}‏ أي‏:‏ اتفاق منكم على البيع، وبه استدلت المالكية على انعقاد البيع بالعقد ولو لم يحصل تفرق بالأبدان‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ إنما يتم بالتفرق بالأبدان، لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «البَيِّعَان بالخِيَار مَا لَمْ يتَفَرَّقَا» وحمله مالك على التفرق بالكلام، وقال أكثر المفسرين‏:‏ التخيير، هو أن يُخير كلُ واحد منهما صاحبة بعد عقد البيع، وقد ابتاع عمرو بن جرير فرسًا، ثم خَيَّر صاحبه بعد البيع، ثم قال‏:‏ سمعت أبا هريرة يقول‏:‏ البيع عن تراض‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ وتخصيص التجارة من الوجوه التي يحل بها انتقال مال الغير، لأنها أغلب وأوفق لذوي المروءات، ويجوز أن يُراد بها الانتقال مطلقًا‏.‏ وقيل‏:‏ المقصود بالنهي‏:‏ صرف المال فيما لا يرضاه الله تعالى، وبالتجارة‏:‏ صرفه فيما يرضى‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ لا تصرفوا أموالكم ولا أحوالكم في غير ما يُقربكم إلى الحق؛ فإن ما سوى الحق كله باطل، كما قال الشاعر‏:‏

ألا كُلُّ شيء مَا خَلآ اللهَ باطلُ *** وكُلٌّ نَعِيمٍ لا مَحَالةَ زائل

إلا أن يكون صرفه في تجارة رابحة، تقربكم من الحبيب، وتجلبُكم إلى حضرة القريب، فتلك تجارة رابحة وصفقة نافعة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

ثم تكلم على بعض ما يتعلق بحفظ الأبدان، وسيأتي تمامه في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 92‏]‏ إلى آخر الآيات، فقال‏:‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أنفسكم‏}‏، بالخنق أو بالنخع أو بالجرح، الذي يؤدي إلى الموت، أو بالإلقاء إلى التهلكة‏.‏ وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال‏:‏ ‏(‏بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في غَزوة ذَات السَّلاَسِلِ، فأجنَبتُ في لَيْلَة بَارِدَة، فَأشْفَقْتُ على نفسي وصَليْتُ بأصحَابِي صَلاة الصُبح بالتيمم‏.‏ فلَمّا قَدِمتُ ذَكَرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ «يا عَمرُو صلَّيتَ بأصحَابِكَ وأنت جُنُب‏؟‏» قلت‏:‏ نعم يا رسول الله، أشفيتُ إن اغتسلتُ أن أهلك، فذكرت قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا‏}‏، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقل شيئاً‏)‏‏.‏

أو‏:‏ ولا تقتلوا إخوانكم في الإسلام، فإن المؤمنين كنفس واحدة‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ جمع في التوصية بين حفظ النفس والمال الذي هو شقيقها من حيث إنه سبب قوامها استبقاء لهم‏.‏ ه‏.‏

وإنما نهاكم عن قتل أنفسكم رأفة، ورحمة بكم، ‏{‏إن الله كان بكم رحيمًا‏}‏، فقد أمر بني إسرائيل بقتل أنفسهم، وأنتم نهاكم عنه‏.‏ ‏{‏ومن يفعل ذلك‏}‏ القتل‏.‏ أو جميع ما سبق من المحرمات ‏{‏عدوانًا وظلمًا‏}‏، أي‏:‏ إفراطًا في التجاوز عن الحد، وإتيانًا بما لا يستحق، أو تعديًا على الغير وظلمًا على النفس، بتعريضها للعقاب، ‏{‏فسوف نصليه نارًا‏}‏ أي‏:‏ نحرقه ونشويه فيها‏.‏ ‏{‏وكان ذلك على الله يسيرًا‏}‏‏.‏

وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَن قَتَل نفسَهُ بِشَيءٍ عُذِبَ في نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا» وهو تغليظ، أو لمن استحل ذلك‏.‏ وهذا الوعيد الذي ذكره الحق هنا في قتل الإنسان بيده، أهون مما ذكره في قتل الغير، الذي يأتي، لأنه زاد هناك الغصب واللعنة والعذاب العظيم، أما قول ابن عطية‏:‏ إنه أجمع المفسرون أن هذه الآية في قتل بعضهم بعضًا، فليس بصحيح، والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ ولا تقتلوا أنفسكم باتباع الشهوات وتراكم الغفلات، فإنه يفوتها الحياة الحقيقية، وقال الفضيل بن عياض رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏لا تغفلوا عن حظ أنفسكم، فمن غفل عن حظ نفسه، فكأنما قتلها‏)‏‏.‏ وحظ النفس هو تزكيتها وتحليتها بالكمالات، أو قُوتها من العلم اليقين، والمعرفة وصحة التمكين، والمراد بالنفس هذا الروح، وأما ما اصطلحت عليه الصوفية من أن النفس يجب قتلها، فإن مرادهم بذلك النفس الأمارة، فإن الروح ما دامت مُظلمة بالمعاصي والهوى سميت نفسًا، فإذا تطهرت وتزكت سميت روحًا‏.‏ وهو المراد هنا‏.‏ سماها نفسًا باعتبار ما كانت عليه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ‏(‏31‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ المدخل بالضم‏:‏ مصدر، بمعنى الإدخال، وبالفتح‏:‏ المكان، ويحتمل المصدر‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ إن تجتنبوا كبائر الذنوب التي تُنهون عنها ‏{‏نكفر عنكم سيئاتكم‏}‏ الصغائر ‏{‏وندخلكم مُدْخلاً كريمًا‏}‏ وهو الجنة، أو إدخالاً مصحوبًا بالكرامة والتعظيم، واختلف في الكبائر، هل تعرف بالعد أو بالحد‏؟‏ فقيل‏:‏ سبع، وقيل‏:‏ سبعون، وقيل‏:‏ سبعمائة، وقيل‏:‏ كل معصية فهي كبيرة‏.‏ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «اجتَنِبُوا السَّبعَ المُوبِقَاتِ‏:‏ الإشراك باللهِ، والسَّحرَ، وقَتلَ النَّفس بغير حقها، وأكلَ الرَيّا، وأكلَ مَالِ اليَتِيمِ، والفرار مِن الزَّحفِ، ورَمي المُحصنَاتٍ الغَافِلاتِ المُؤمِنَاتِ»‏.‏

قال ابن جزي‏:‏ لا شك أن هذه مِنَ الكبائر لنص الشارع عليها، وزاد بعضهم عليها أشياء ورد النص عليها في الحديث أنها من الكبائر، منها عقوق الوالدين، وشهادة الزور، واليمين الغموس، والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، والنهبة، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله، ومنع ابن السبيل الماء، والإلحاد في البيت الحرام، والنميمة، وترك التحرّز من البول، والغلول، واستطالة الرجل في عرض أخيه، والجور في الحكم‏.‏

وقيل في حدّها‏:‏ كل جريمة تؤذن بقلة الدين ورقة الديانة، وقيل‏:‏ ذنوب الظاهر صغائر، وذنوب الباطن كبائر‏.‏ وقيل‏:‏ كل ما فيه حق الغير فهو كبائر، وما كان بينك وبين الله تعالى صغائر، واحتج هذا بقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «يُنَادِي يومَ القيامة مناد من بُطنان العرش‏:‏ يا أمّة أحمد، إنّ الله تعالى يقول‏:‏ أمَّا ما كان لي قِبلَكُمُ فقد وهبتهُ لكم، وبقيت التباعات، فَتواهبُوها، وادخلوا الجنة»‏.‏

الأشارة‏:‏ كل ما يُبعد العبد عن حضرة ربه فهو من أكبر الكبائر، فمن اجتنب ذلك واتقى كل ما يشغله عن الله أدخله الله مدخلاً كريمًا، وهو حضرة الشهود والتلذذ برؤية المعبود، والترقي في أسرار الحبيب الودود‏.‏ قال الورتجبي‏:‏ قال أبو تراب‏:‏ أمر الله باجتناب الكبائر، وهي الدعاوى الفاسدة، والإشارات الباطلة، وإطلاق اللفظ بغير الحقيقة‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏32‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولا تتمنوا ما فضَّل الله به‏}‏ من الميراث ‏{‏بعضكم على بعض‏}‏، كتضعيف الذكر على الأنثى، فللرجال ‏{‏نصيب مما اكتسبوا‏}‏ أي‏:‏ مما أصابوا وأحرزوا في القسمة، ‏{‏وللنساء نصيب مما اكتسبن‏}‏ منه، قلَّ أو كثر، فلتقنع بما قسم الله لها، ولا تعترض على أحكام الشريعة، ولكن ‏{‏اسألوا الله من فضله‏}‏ يُعطكم من غير الميراث، هكذا فسرها ابن عباس‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ قالت أُم سلمة‏:‏ يغزو الرجال ولا نغزو، فليتنا رجال نغزو، ونبلغ ما يبلغ الرجال‏.‏ فنزلت‏.‏ فيكون المعنى‏:‏ ولا تتمنوا ما فضل اللهُ به الرجال على النساء كالغزو وغيره، فللرجال نصيب مما اكتسبوا من ثواب الجهاد وسائر أعمالهم، ‏{‏وللنساء نصيب مما اكتسبن‏}‏ من طاعة أزواجهن وحفظ فروجهم وسائر بقية أعمالهن‏.‏

والتحقيق أنها عامة في جميع المراتب الدينية والدنيويه لأن ذلك ذريعة إلى التحاسد والتعادي، ومعربة عن عدم الرضا بما قسم الله له، وإلى التشهي لحصول الشيء له من غير طلب، وهو مذموم؛ لأن تمنّي ما لم يقدر له، معارضة لحِكمة القدر، وتمنّي ما قدر له بكسب، بطالة وتضييع حظ، وتمنّي ما قدر له بغير كسب، ضياع ومحال، قاله البيضاوي‏.‏ فللرجال نصيب من أجل ما اكتسبوا من الأعمال، وتحملوا من المشاق، فيعطيهم الله على قدر ما اكتسبوا ‏{‏وللنساء نصيب مما اكتسبن‏}‏ كذلك، فلا فائدة في تمني ما للناس، ولكن ‏{‏اسألوا الله من فضله‏}‏ يُعطكم مثله، أو أكثر من خزائنه التي لا تنفذ‏.‏ ‏{‏إن الله كان بكل شيءٍ عليمًا‏}‏ وهو يعلم ما يستحقه كل إنسان، فيُفَضِّل من شاء بما شاء عن علم وبيان، ومناسبة الآية حينئِذ لما قبلها‏:‏ أن تجنب الكبائر فضل من الله ونعمة، وهو أفضل ممن يقع فيها، لكن لا ينبغي تمني ذلك من غير عمل، ولكن يسأل الله من فضله حتى يُلحقه بأهل العصمة‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ قد وقع التفضيل في مقامات الأولياء كالأنبياء، لكن لا ينبغي تعيين الفاضل من المفضول، لِما يؤدي إليه من التنقيص فيؤدي إلى الغيبة، والتفضيل يقع بزيادة اليقين وصحة التمكين، والترقي في أنوار التوحيد وأسرار التفريد‏.‏ يكون أيضًا بهداية الخلق على يده، وظهور إحسانه ورفده، فإذا رأى العبدُ أنه لم يبلغ إلى مقام غيره فلا يتمنى ذلك المقام بعينه، فقد يكون مقامه عند الله في عمله أعظم، وقد يكون أدون، فيُسيء الأدب، فالخير كله في العبودية والرضى بأحكام الربوبية، فللأقوياء نصيب مما اكتسبوا بالقوة والمجاهدة التي خلق الله فيهم، حكمةً وفضلاً، وللضعفاء نصيب مما اكتسبوا قسمة وعدلاً، ولكن يسأل الله من فضله العظيم، فإن الله بكل شيء عليم، فقد يُعطى بلا سبب ويُبَلِّغ بلا تعب‏.‏

وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «سَلُوا الله مِن فَضلِهِ فَإنَّ اللهَ يُحِبُ أن يُسألَ» وفي حديث أخر‏:‏ «مَن لَم يَسألِ اللهَ يَغضَب عَلَيهِ» وقال الورتجبي‏:‏ أمر بالسؤال ونهى عن التمني؛ لأن السؤال افتقار، والتمني، اختيار‏.‏ ه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ‏(‏33‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ التنوين في «كل»‏:‏ للعوض، و‏{‏مما ترك‏}‏ بيان للمعوض منه، أي‏:‏ ولكل مال مما ترك الوالدان والأقربون جعلنا موالي‏:‏ أي‏:‏ ورثة، وهم الذرية والعصبة يرثون من ذلك المال، والوالدان على هذا فاعل، ويحتمل أن يكون مبتدأ والتنوين عوض عن الميت الموروث، أي‏:‏ ولكل ميت جعلنا ورثة يرثون مما ترك ذلك الميت، وهم الوالدان والأقربون فيوقف على ‏{‏ترك‏}‏، و‏{‏مما‏}‏ يتعلق بمحذوف، و‏{‏الذين‏}‏ مبتدأ، و‏{‏فآتوهم‏}‏ خبر، دخلت الفاء لما في المبتدأ من العموم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ولكل ميت جعلنا وَرَثَة يرثون ‏{‏مما ترك‏}‏ ذلك الميت، وهم ‏{‏الوالدان والأقربون‏}‏، أو لكل تركة جعلنا لها ‏{‏موالي‏}‏ أي‏:‏ ورثة يرثون مما ترك الوالدان والأقربون، ‏{‏والذين عقدت أيمانكم‏}‏ وهم موالي الحِلف، كانوا يتحالفون في الجاهلية على النصرة والمؤازرة، يقول الرجل لآخر‏:‏ دمي دمك، وهدمي هدمك، وثأري ثأرك‏.‏ فيضرب بعضهم على يد الآخر في عقد ذلك الحلف‏.‏ فلذلك قال‏:‏ ‏{‏عقدت أيمانكم‏}‏ فكان في أول الإسلام يرث من حليفه السدس، وإليه أشار بقوله‏:‏ ‏{‏فآتوهم نصيبهم‏}‏، ثم نسخ‏.‏

وقيل‏:‏ نزلت في المؤاخاة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، فكان يرث السدس، ثم نُسخ بقوله ‏{‏وَأْوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 75‏]‏‏.‏ وعن أبي حنيفة‏:‏ لو أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على أن يتعاقلا ويتوارثا صح وورث‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ آتوهم نصيبهم من النصرة التي تعاقدوا عليه، فيُوفي لهم بها، فلا نسخ‏.‏

‏{‏إن الله كان على كل شيء شهيدًا‏}‏، هو تهديد لم تعدى الحدود، ونقض العهود‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ ولكل زمان جعلنا أولياء كبراء، يرثون مما ترك أشياخهم من خصوصية الولاية وسر العناية، إلى يوم القيامة؛ فالأرض لا تخلو ممن يقوم بالحجة ويظهر المحجة، فيقال لهم‏:‏ والذين عقدت أيمانكم في الصحبة معكم، فظهر صدقهم، وبانت خدمتهم، فآتوهم نصيبهم مما خصكم الله به من سر الولاية ولطف العناية، ‏{‏إن الله كان على كل شيء شهيدًا‏}‏، لا يخفى عليه من يستحق الخلافة ويرث سرَ الولاية‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ‏(‏34‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏فالصالحات‏}‏ مبتدأ، وما بعده إخبار عنه، وأتى بالفاء المؤذنة بالنسببية والتفريع، وكأنه تعالى يقول‏:‏ الرجال قوامون على النساء، فمن كانت صالحة قام عليها بما تستحقه من حسن المعاشرة، ومن كانت ناشزة عاملها بما تستحقه من الوعظ وغيره‏.‏ وكل ما هنا من لفظ ‏(‏ما‏)‏ فهي مصدرية‏.‏ إلا ما قرأ به أبو جعفر‏:‏ ‏[‏بما حفظ الله‏]‏ بالنصب، فهي عنده موصولة اسمية، أي‏:‏ بالأمر الذي حفظ الله؛ وهو طاعتها لله فحفظها بذلك، وقيل إنها مصدرية‏.‏ انظر الثعلبي‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏الرجال قوّامون على النساء‏}‏ أي‏:‏ قائمون عليهن قيام الولاة على الرعية، في التأديب والإنفاق والتعليم، ذلك لأمرين‏:‏ أحدهما وهبي، والآخر كسبي؛ فالوهبي‏:‏ هو تفضيل الله لهم على النساء بكمال العقل وحسن التدبير ومزيد القوة في الأعمال والطاعات، ولذلك خُصوا بالنبوة، والإمامة، والولاية، وإقامة الشعائر، والشهادة، في مجامع القضايا، ووجوب الجهاد والجمعة ونحوهما، والتعصيب، وزيادة السهم في الميراث، والاستبداد بالطلاق‏.‏ والكسبي هو‏:‏ ‏{‏بما أنفقوا من أموالهم‏}‏ في مهورهن، ونفقتهن، وكسوتهن‏.‏

فيجب على الزوج أن يقوم العدل في أمر نسائه، فالمرأة الصالحة القانتة، أي‏:‏ المطيعة لزوجها ولله تعالى، الحافظة للغيب، أي‏:‏ لما غاب عن زوجها من مال بيته وفرجها وسر زوجها، حفظت ذلك بحفظ الله، أي‏:‏ بما جعل الله فيها من الأمانة والحفظ، وبما ربط على قلبها من الديانة، أو بحفظها حق الله، فلما حفظت حقوق الله حفظها الله بعصمته، لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «احفَظَ اللهَ يَحفَظكَ» فمن كانت على هذا الوصف من النساء فيجب على الزوج حُسن القيام بها، ومقابلتها في القيام بما قابلته من الإحسان، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «خير النساء أمرأةٌ إن نَظَرتَ إلَيهَا سَرَّتكَ، وإن أمرتها أطَاعَتكَ، وإن غِبتَ حفظتك في مَالِها ونَفسِهَا» وتلا هذه الآية‏.‏

وأما النساء التي ‏{‏تخافون‏}‏ أي‏:‏ تتيقنون ‏{‏نشوزهن‏}‏ أي‏:‏ ترفعهن عن طاعة أزواجهن وعصيانهن، ‏{‏فعظوهن‏}‏ بالقول، فإن لم ينفع فاهجروهن في المضاجع، أي‏:‏ لا تدخلوا معهن في لحاف، أو لا تجامعوهن، فإن لم ينفع فاضربوهن ضربًا غير مؤلم ولا شائن‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «عَلِّق السَّوطَ حَيثُ يَرَاهُ أهلُ البيت» وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت‏:‏ ‏(‏كنتُ رابعَ نسوة عند الزبير بن العوام، فإذا غضب على إحدانا، ضربها بعود المِشجب، حتى ينكسر‏)‏‏.‏ والمشجب‏:‏ أعواد مركبة يجعل عليها الثياب‏.‏

‏{‏فإن أطعنكم‏}‏ يا معشر الأزواج، أو عقدن التوبة مما مضى، ‏{‏فلا تبغوا عليهن سبيلاً‏}‏ أي‏:‏ لا تطلبوا عليهن طريقًا تجعلونه سبيلاً لإيذائهن، بل اجعلوا ما كان منها من النشوز كأن لم يكن، ‏(‏فإنَّ التَّائِبَ مِن الذَّنبِ كَمَن لا ذَنَب لَهُ‏)‏‏.‏

وقال ابن عُيَيْنَة‏:‏ أي لا تكلفوهن بحبكم‏.‏ ه‏.‏ وقال الورتجبي‏:‏ إذا حصل منهن صورة طاعة الرجال فلا يطلب منهن موافقة الطباع، فإن ذلك منازعة للقدر‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ‏}‏ ‏[‏الرُّوم‏:‏ 30‏]‏، وذكر حديث «الأروَاح جُنودٌ مُجنَّدةٌ»‏.‏

ثم هدد الأزواج فقال‏:‏ ‏{‏إن الله كان عليًّا كبيراً‏}‏ فاحذروه، فإنه أقدر عليكم منكم على من تحت ولايتكم، أو‏:‏ إنه على علو شأنه، يتجاوز عن سيئاتكم، فأنتم أولى بالعفو عن نسائكم، أو‏:‏ أنه يتعالى ويَكبر أن يظلم أحدًا أو يُنقص حقه‏.‏

وسبب نزول الآية‏:‏ أن سَعدَ بنَ الرَّبِيع، وَكَانَ مِن النُقَبَاءِ، لَطَمَ امرأته حَبيبَةَ بِنتَ زَيدِ بن أبي زُهَيرِ، وكانت نَشَزَتَ عَليهِ، فَانطَلَقَ أبُوُها معَهَا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أفرَشتُهُ كَرِيمَتِي فَلَطَمَها، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لِتقتَصَّ مِنهُ،» فَانصرَفَت لتقتصّ منه فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ارجعوا، هذا جِبرِيلُ أتَاني وأنزَلَ الله هَذِهِ الآية‏:‏ ‏{‏الرجال قوامون على النساء‏}‏» إلى آخرها، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «أَرَدنَا أمرًا، وأرَادَ اللهُ أمرًا، والَّذِي أرَاد اللهُ خَير» فرفع القِصَاص‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في غيره ممن وقع له مثل هذا من النشوز‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ الرجال الأقوياء قوامون على نفوسهم قهارون لها، بفضل القوة التي مكنهم الله منها، وبما أنفقوا عليها من المجاهدات والرياضات، فهم ينظرون إليها ويتهمونها في كل حين، فإن صلحت وأطاعت وانقادت لما يراد منها من أحكام العبودية، والقيام بوظائف الربوبية، عاملوها بالإكرام والإجمال، ورفعوا عنها الآداب والنكال، وإن نشزت وترفعت أدبوها وهجروها عن مواطن شهواتها ومضاجع نومها، وضربوها على قدر لجاجها وغفلتها‏.‏

وكان الشيخ أبو يزيد يأخذ قبضة من القضبان ويذهب إلى خلوته، فكلما غفلت ضربها، حتى يكسرها كلها، وكان بعض أصحابنا يأخذ خشبة ويذهب إلى خلوته، فكلما غفل ضرب رأسه به، حتى يأتي رأسُه كلَّه مفلول، وبلغني أن بعض أصحابنا كان يُدخل في لحمة رجله سكيناً كلما غفل قلبه، وهذا إغراق، وخير الأمور أوسطها‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ‏(‏35‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الشقاق‏:‏ المخالفة والمساورة، وأضيف إلى الظرف توسعًا كقوله‏:‏ ‏{‏بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ‏}‏ ‏[‏سَبَأ‏:‏ 32‏]‏، والأصل‏:‏ شقاقًا بينهما، والضمير في ‏{‏يُريدا‏}‏ للحكمين، وفي ‏{‏بينهما‏}‏ للزوجين، وقيل‏:‏ للحكمين معًا، وقيل‏:‏ للزوجين معًا‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وإن خفتم‏}‏ يا معشر الحكام، أي علمتم خلافَا بين الزوجين ومشاررة، ولم تدروا الظالم من المظلوم، ‏{‏فابعثوا‏}‏ رجلين أمينين يحكمان بينهما، يكون أحداهما من أهله والآخر من أهلها، لأن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال، وأطلب للإصلاح، فإن بعثهما الحاكمُ أجنبيين صح، وكذا إن أقامهما الزوجان‏.‏

وما اتفق عليه الحكمان لزم الزوجين من خُلع أو طلاق أو وفاق‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ ليس لهما التطليق إلاَّ أن يجعل لهما، وإذا اختلفا لم يلزم شيء، ويستأنفان الحكم، قال ابن جُزَي‏:‏ ومشهور مذهب مالك‏:‏ أن الحاكم هو الذي يبعث الحكمين، وقيل‏:‏ الزوجان، وجرت عادة القضاء أن يبعثوا امرأة أمينة ولا يبعثوا الحكمين، قال بعض العلماء‏:‏ هو تغيير القرآن والسنة الجارية‏.‏ ه‏.‏

فإن بُعِث الحكمان، فإن أرادا إصلاحًا بين الزوجين، واتفقا عليه، وفق الله بينهما ببركة قصدهما، وفيه تنبيه على أن من أصلح نيته فيما يتحراه أصلح الله مبتغاه‏.‏ ‏{‏إن الله كان عليمًا خبيرًا‏}‏ بما في الظواهر والبواطن، فيعلم كيف يرفع الشقاق ويوقع الوفاق‏.‏

الإشارة‏:‏ وإن خفتم، أيها الشيوخ، على صاحبكم منازعة النفس والروح؛ فكانت النفس تجمح به إلى أسفل سافلين، بمتابعة هواها وعصيان مولاها، والروح تجنح به إلى أعلى عليين، بجهاد هواها ومشاهدة مولاها، فابعثوا له واردين قويين، إما شوق مقلق يرحل الروح إلى مولاها، أو خوف مزعج يزجر النفس عن هواها‏.‏ فإن أراد الله بذلك العبد إصلاحًا لحاله أرسلهما معًا متفقين على تخليصه وارتفاعه، فيتقدم الخوف المزعج ويستدركه الشوق المقلق، فيلتحق بأهل التحقيق من أهل التوفيق، وما ذلك على الله بعزيز، وفي الحكم‏:‏ «لا يُخرِج الشهوةَ من القلب إلا خوف مزعج، أو شوق مقلق»‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ‏(‏36‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الجُنب بالضم‏:‏ البعيد، يقال فيه‏:‏ جُنُب وأجنب وأجنبي، وسمي الجُنبُ جُنُبًا لأنه يبعد من المسجد وعن الصلاة وعن التلاوة، و‏(‏مختال‏)‏ أسم فاعل، وأصله‏:‏ مختيل، بالكسر، من الخُيَلاَء وهو التكبر‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏واعبدوا الله‏}‏ أي‏:‏ وَحِّدُوه وأطيعوه ‏{‏ولا تشركوا به شيئًا‏}‏ جليًا أو خفيًا في اعتقادكم أو في عبادتكم، فمن قصد الحج والتجارة، فقد أشرك مع الله في عبادته، وأحسنوا بالوالدين إحسانًا حسنًا، وهو برهما والقيام بحقهما، ‏{‏وبذي القربى‏}‏، أي‏:‏ القرابة في النسب، أو الدين ‏{‏واليتامى‏}‏ لضعف حالهم، ‏{‏والمساكين‏}‏ لقلة ما بيدهم، وقد شكى بعض الناس قساوة قلبه، فقال له عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إن أردتَ أن يلين قلبُك، فأطعم والمسكين وامسح رأس اليتيم، وأطعمه»‏.‏

‏{‏والجار ذي القربى‏}‏ الذي قّرُب جواره أو نسبه، ‏{‏والجار الجُنب‏}‏ الذي بَعُد مكانه أو نسبه، وحَدَّد بعضُهم الجوار بأربعين دارًا من كل ناحية‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الجار ذي القربى‏:‏ الجار الذي بينك وبينه قرابة، والجار الجنب‏:‏ الجار من قوم آخرين‏.‏ ه‏.‏

قيل يا رسول الله‏:‏ ما حق الجار على الجار قال‏:‏ «إن دعاك أجبتَه، وإن أصابته فاقةٌ عُدتَ عليه، وإن استقرضك أقرضته، وإن أصابه خير هنأته، وإن مرض عُددته، وإن أصابته مصيبة عزيته، وإن توفي شهدت جنازته، ولا تستعل عليه بالبنيان لتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذه بقُتار قدرك أي‏:‏ بخارها إلا أن تغرف له منها، وإن ابتعت فاكهة فأهد له منها، فإن لم تفعل فأدخلها سرًا، ولا يخرج ولدك منها بشيء فيغيظ ولده،» ثم قال‏:‏ «الجيران ثلاثة‏:‏ فَجَارٌ له ثلاثة حقوق‏:‏ حق الجوَارِ، وحق القرابة، وحق الإسلام، وجار له حقان‏:‏ حق الجِوَار، وحق الإسلام، وجَارٌ له حق واحد‏:‏ وهو المشرك من أهل الكتاب»‏.‏

‏{‏والصاحب بالجنب‏}‏، وهي الرفيق في أمر حسن، كتعلم وتصرف وصناعة وسفر، فإنه صحبك بجنبك، وعن علي كرم الله وجهه ‏(‏أنها الزّوجة‏)‏، فيتأكد في حقها الإحسان زيادة على المعاشرة بالمعروف، قال بعضهم‏:‏ أول قدم في الولاية؛ كفّ الأذى وحمل الجفا، ومعيار ذلك حسن معاشرة الأهل والولد، وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «خَيرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِنسَائِه، وأنَا خَيْرُكُمْ لِنسَائِي» ‏{‏وابن السبيل‏}‏، وهو الضيف أو المسافر لغرابته، ‏{‏وما ملكت أيمانكم‏}‏، من الإماء والعبيد، وكَانَ آخِرُ كلامِ النّبُي عليه الصلاة والسلام‏:‏ «الصلاةَ الصَلاةَ وَمَا مَلَكتْ أيمانُكُمْ»‏.‏

‏{‏إن الله لا يحب مَن كان مختالاً‏}‏ أي‏:‏ متكبراً، يأنف عن أقاربه وجيرانه وأصحابه ولا يلتفت إليهم، ‏{‏فخورا‏}‏ يتفاخر عليهم بماله وجاهه، وما خوله الله من نعمه، فهو جدير أن تسلب منه‏.‏

الإشارة‏:‏ واعبدوا الله، أي‏:‏ بالقيام بوظائف العبودية، ومشاهدة عظمة الربوبية، وقال بعض الحكماء‏:‏ العبودية‏:‏ ترك الاختيار، وملازمة الذل والافتقار‏.‏ وقيل‏:‏ العبودية أربعة أشياء‏:‏ الوفاء بالعهود، والحفظ للحدود، والرضا بالموجود، والصبر على المفقود، وعنوان ذلك صفاء التوحيد، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏ولا تشركوا به شيئًا‏}‏ أي‏:‏ لا تَرَوْا معه غيره، كما قال القائل‏:‏

مُذْ عَرَفْتُ الإِلهَ لَم أرَ غَيْرًا *** وكَذَا الغَيْرُ عِنْدنَا ممْنُوعُ

وقال آخر‏:‏ ‏(‏لو كُلفت أن أرى غيره، لم أستطع، فإنه لا غير معه حتى أشهده‏)‏‏.‏ فإذا حصلت العبودية في الظاهر، وتحقق التوحيد في الباطن، ظهرت عليه مكارم الأخلاق فيُحسن إلى الأقارب والأجانب، ويجود عليهم بالحس والمعنى، لأن الفتوة من شأن أهل التوحيد، ومن شيم أهل التجريد، كما هو معلوم من حالهم، نفعنا الله بذكرهم، وخرطنا في سلكهم‏.‏ آمين‏.‏

قال الورتجبي‏:‏ «الوالدين»‏:‏ مشايخ المعرفة‏.‏ ثم نقل عن الجنيد، أنه قال‏:‏ أمرني أبي أمرًا، وأمرني السري أمرًا‏.‏ فقدمت أمر السري على أمر أبي، وكل ما وجدت فهو من بركاته‏.‏ ه‏.‏ وذوو القربى هم الأخوة في الشيخ، ‏{‏واليتامى‏}‏‏:‏ من قصدهم من المتفقرة الجاهلة، ‏{‏والمساكين‏}‏‏:‏ ضعفاء اليقين من العامة، أمر الله تعالى أهل الخصوصية بالإحسان إليهم والبرور بهم، وهو أن يقرهم في طريقهم، وبحوشهم إلى ربهم‏.‏

‏{‏والجار ذي القربى‏}‏ وهو جارك في السكنى وأخوك في النسبة، فيستحق عليك زيادة الإحسان‏.‏ ‏{‏والجار الجنب‏}‏‏:‏ من جاورك من العوام فتنصحه وترشده، ‏{‏والصاحب بالجنب‏}‏‏:‏ من رافقك في أمر من العوام، كَسَفَرٍ وغيره، ‏{‏وابن السبيل‏}‏‏:‏ من نزل بأهل الخصوصية من الأضياف، فلهم حق الضيافة عليهم حسًّا ومعنًى، ‏{‏وما ملكت أيمانكم‏}‏‏:‏ ما لكم تصرف عليهم الأهل والبنين والإماء والعبيد، فتقربونهم إلى حضرة الملك المجيد‏.‏ ثم أمرهم بالتواضع والإقبال على الخاص والعام‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏إن الله لا يحب مَن كان مختالاً فخورًا‏}‏‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 39‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏37‏)‏ وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ‏(‏38‏)‏ وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا ‏(‏39‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏الذين‏}‏ بدل مِن‏:‏ «مَن كان»، أو منصوب على الذم، أو مرفوع عليه، أي‏:‏ هم‏.‏ أو مبتدأ حذف خبره، أي‏:‏ نعذبهم عذابًا مُهينًا، أو أحقاء بكل ملامة، و‏{‏الذين ينفقون‏}‏‏:‏ عطف على الأولى، أو مبتدأ حُذف خبره، أي‏:‏ الشيطان قرينهم‏.‏ والبخل فيه لغتان‏:‏ البُخل والبَخَل بحركتين‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏الذين يبخلون‏}‏ بأموالهم على أقاربهم وجيرانهم، ‏{‏ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله‏}‏ من الغنى، فيظهرون القلة والعيلة، أو يكتمون العلم بصفة النبي صلى الله عليه وسلم، هم أحقاء بكل لوم وعتاب‏.‏ ‏{‏وأعتدنا للكافرين‏}‏ منهم ‏{‏عذابًا مُهينًا‏}‏ يهينهم ويخزيهم، نزلت في اليهود، كانوا يقولون للأنصار‏:‏ لا تنفقوا أموالكم، فإنا نخشى عليكم الفقر، وكتموا صفته عليه الصلاة والسلام وَوَضعَ الظاهر موضع المضمر كأنه يقول‏:‏ وأعتدنا لهم، إشعارًا بأن مَن هذا شأنه فهو كافر بنعمة الله تعالى، ومن كفر بنعمة الله وأهانها استحق عذابًا مهينًا‏.‏

‏{‏والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس‏}‏ طالبًا لمدحهم وخوفًا من ذمهم، ‏{‏ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر‏}‏، يتحرّون بإنفاقهم مراضية، فالشيطان قرينهم لا يفارقهم، ‏{‏ومن يكن الشيطان له قرينًا فساء قرينًا‏}‏، فلمّا كان الشيطان قرينهم زين لهم التهالك على الأموال والرياء في الأعمال، وإنما أشرك أهل الرياء مع البخلاء في الوعيد من حيث إنهما طَرَفَا تفريط وإفراط، وهما سواء في القبح واستجلاب الذم‏.‏

‏{‏وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله‏}‏ أي‏:‏ لا ملامة عليهم ولا تبعة تحيق بهم؛ لو أخلصوا الإيمان وأنفقوا مما رزقهم الكريم المنان‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ وفيه تنبيه على أن المدعو إلى أمر لا ضرر فيه ينبغي أن يُجيب إليه احتياطاً، فكيف إذا تضمن المنافع‏.‏ وإنما قدم الإيمان هاهنا وأخره في الآية الأخرى‏:‏ لأن القصد بذكره هنا التخصيص، وثَم التقليل‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏وكان الله بهم عليمًا‏}‏ لا يخفى عليه شيء من أمورهم وقصدهم‏.‏

الإشارة‏:‏ قال بعض الصوفية‏:‏ ‏(‏من أقبح كل قبيح صوفي شحيح‏)‏، فالصوفية العارفون رضي الله عنهم الذين هم صفوة العباد متخلقون بأضداد ما وسم به الحق تعالى أهل العناد، فهم يجودون بأنفسهم وما خصهم الله بهم من العلوم اللدنية والأسرار القدسية، على من يستحقه من أهل التخلية والتحلية، ويأمرون الناس بالسخاء ومكارم الأخلاق، ويتحدثون بما منحهم الملك الخلاق، ويظهرون الغنى بالله والاكتفاء به عن كل ما سواه، وإذا بذلوا أموالهم أعطوها لله وبالله ومن الله وإلى الله وابتغاء مرضاة الله، هجم عليهم اليقين، وتمكنوا من شهود رب العالمين، فلا يقرب ساحتهم الشيطان، ولا يرون في الدارين إلا الملك الديان، تحبهم ملائكة الرحمن، ويحن إليهم الأنس والجان‏.‏ نفعنا الله بمحبتهم، وخرطنا في مسلكهم، آمين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏40‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الذرة‏:‏ النملة الصغيرة الحمراء‏.‏ وتطلق على جزء من أجزاء الهباء‏.‏ ومن نَصَب ‏{‏حسنة‏}‏ فَخَبَرُ كان‏.‏ وأُنث الضمير باعتبار الخبر‏.‏ أو لإضافة مثقال إلى ذرة، فاكتسب التأنيث، ومن رفع فهي تامة، وحذف نونها على غير قياس، تشبيهًا لها بحروف العلة‏.‏ وضاعف وضّعف بمعنى واحد‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إن الله لا يظلم‏}‏ أحدًا بحيث ينقص من ثواب عمله، أو يزيد في عقبا ما يستحقه، ولو مثقال ذرة‏.‏ بل يجازي كلاً على قدر عمله‏.‏ فإن كان صالحًا، ولو صغر قدره، عظُم أجره‏.‏ ‏{‏فإن تك حسنة يُضاعفها‏}‏ بعشر أمثالها إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة، بحسب الإخلاص‏.‏ قال أبو هريرة رضي الله عنه‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «إنَّ اللهَ يُعْطِي المُؤمنَ عَلى الحَسَنة ألفي ألف حَسَنة»، ثم تلا ‏{‏إن الله لا يظلم مثقال ذرة‏}‏ الآية‏.‏

‏{‏ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا‏}‏، وخيرًا جسيمًا، فضلاً منه وإحسانًا‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنَّ اللهَ لا يظلم المُؤمنَ حَسنةً، بل يُثاب عليها الرزق في الدُنيَا ويجزيه بها في الآخِرَةِ‏.‏ والكَافِر يعطيه بها في الدُّنيَا، فإذا كان يوم القيامة لم يكُن لَهُ حَسَنةٌ»‏.‏

الإشارة‏:‏ كما أن الحق تعالى لا يظلم طالبي الأجور، بل يضاعف لهم في زيادة الحور والقصور، كذلك لا يبخس طالبي القرب والحضور، ورفع الحُجب والستور‏.‏ بل كلما فعلوا من أنواع المجاهدات ضاعف لهم أنوار المشاهدات‏.‏ وكلما نقص لهم من الحس ولو مثقال ذرة زادهم في المعنى قَدْرَهُ وأكثر شهودًا ونظرة‏.‏ وكلما يقهر النفس ولو مقدار الفتيل، شربوا مقداره وأكثر من خمرة الجليل، وهذا كله مع صحبة المشايخ أهل التربية، وإلاَّ فلا تزيده مجاهدته إلا حَجبًا وبعدًا عن الخصوصية‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 42‏]‏

‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ‏(‏41‏)‏ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ‏(‏42‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏كيف‏}‏ إذا كان الكلام بعدها تامًا أُعربت حالاً، كقولك‏:‏ كيف جاء زيد‏؟‏ وإذا كان ناقصًا، كانت خبرًا، كقولك‏:‏ كيف زيد‏؟‏ وهي هنا خبر‏؟‏ أي‏:‏ كيف الأمر أذا‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏.‏ وهي مبنية لتضمنها معنى الاستفهام، والعامل في ‏{‏إذا‏}‏ مضمون المبتدأ، أو الخبر، أي‏:‏ كيف يستقر الأمر أو يكون إذا جئنا‏؟‏ ومن قرأ ‏{‏تَسوّى‏}‏ بالشد، فأصله تتسوى، أدغمت الأولى في الثانية، ومن قرأ ‏{‏لو تُسوّى‏}‏ بالبناء للمفعول فحذف الثانية‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏فكيف‏}‏ يكون حال هؤلاء الكفرة واليهود ‏{‏إذا‏}‏ قامت القيامة و‏{‏جئنا من كل أمة بشهيد‏}‏ يشهد عليها بخيرها وشرها، وهو نبيهم الذي أرسل اليهم، ‏{‏وجئنا بك‏}‏ أنت يا محمد ‏{‏على هؤلاء‏}‏ الأمة التي بعثت إليهم ‏{‏شهيدًا‏}‏ عليهم، أو على صدق هؤلاء الشهداء شهيدًا، تشهد على صدق رسالتهم وتبليغهم‏؟‏ لعلمك بعقائدهم واستجماع شرعك مجامع قواعدهم، وقيل‏:‏ ‏{‏وعلى هؤلاء‏}‏ الكفرة المستفهم عن حالهم، وقيل‏:‏ على المؤمنين لقوله‏:‏ ‏{‏لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏‏.‏ ‏{‏يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول‏}‏ أي‏:‏ الذين جمعوا بين الكفر والعصيان يتمنون أن ‏{‏تسوى بهم الأرض‏}‏ فيكونون ترابًا لما يرون من هول المطلع، فإذا شهدت عليهم الرسل بالكفر قالوا‏:‏ ‏{‏واللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعَام‏:‏ 23‏]‏، فيُنطق ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بشركهم فيفتضحون ‏{‏ولا يكتمون الله حديثاً‏}‏ واحدًا، لأنهم كلما هموا بالكتمان شهدت عليهم جوارحهم بالكفر والعصيان‏.‏

وقيل‏:‏ إن القيامة مواطن، في موطن لا يتكلمون ولا تسمع إلا همسًا، وفي موطن يتكلمون ويقولون‏:‏ والله ربنا ما كنا مشركين، إلى غير ذلك من اختلاف أحوالهم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ لا بد أن يحصل الندم لمن فاته صحبة أهل الخصوصية، حتى مات محجوبًا عن مشاهدة أسرار الربوبية، لا سيما إذا انضم إليهم كفرهم بخصوصيتهم والإنكار عليهم، وذلك حين يكشف له عن مقامهم البهي وحالهم السني، مصاحبين للمقربين في جوار الأنبياء والمرسلين، وهو في مقام أهل اليمين، ثم يعاقب على ما أسر عليه من الكبائر، وهي معاصي القلوب والضمائر، وهذا إذا مات على الإسلام، وإلا فالإنكار على الأولياء شُؤمُه سوء الخاتمة‏.‏ والعياذ بالله من ذلك‏.‏ وقد تقدم أن العارفين بالله يشهدون على العلماء، والعلماء يشهدون على العموم، ونبينا عليه الصلاة والسلام يزكي من يحتاج إلى التزكية‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ‏(‏43‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ جملة ‏{‏وأنتم سكارى‏}‏‏:‏ حال، وسكارى‏:‏ جمع سكران، ويجمع على سُكارى بالفتح وسكْرى بالسكون، و‏{‏لا جُنُبًا‏}‏ عطف على جملة الحال، و‏{‏جُنب‏}‏ يستوي فيه الواحد والاثنان والجماعة والمذكر والمؤنث، لأنه يجري مجرى المصدر فلا يُثنى ولا يُجمع‏.‏ و‏{‏إلا عابري‏}‏ مستثنى من عام الأحوال، وأصل الغائط‏:‏ الموضع المنخفض من الأرض، ثم أطلق على الواقع فيه مما يخرج من الإنسان‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى‏}‏‏:‏ لا تقوموا إليها وأنتم سكارى من خمر، أو غلبة نوم، أو شدة غفلة، ‏{‏حتى تعلموا ما تقولون‏}‏ في صلاتكم، وتتدبروا ما تقرأون فيها، فالصلاة من غير حضور خاوية، وعند الخصوص باطلة، رُوِي أن عبد الرحمن بن عَوف صنَع مأدبة، ودَعَا إليها نفرًا من الصحابة، حين كانت الخمر مباحة، فأكلوا وشربوا حتى ثَمِلُوا، وجاء وقت صلاة المغرب، فتقدم أحدهم ليصلي بهم، فقرأ‏:‏ أعبد ما تعبدون من غير نفي فنزلت الآية قبل تحريم الخمر، ثم حرمت بآية المائدة‏.‏

ولا تقربوها حالة جنابتكم في آي حال كان، ‏{‏إلا عابري سبيل‏}‏ أي‏:‏ في وقت سفركم، حيث لم تجدوا ماءً، بدليل ما يأتي، فيتيمم ويقرب الصلاة وهو جنب، وفيه دليل أن التيمم لا يرفع الحدث، قيل المراد بالصلاة مواضعها، وهي المساجد فلا يدخلها الجنب إلا مارًا، وبه قال الشافعي رضي الله عنه وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يجوز المرور، إلاَّ إذا كان فيه الماء والطريق‏.‏ وقال مالك‏:‏ لا يدخل إلا بالتيمم ولا يمر به أصلاً‏.‏

فلا تقربوا الصلاة وأنتم جنب ‏{‏حتى تغتسلوا‏}‏‏.‏

‏{‏وإن كنتم مرضى‏}‏ تخافون ضرر الماء، أو زيادته، أو تأخر برء، أو منع الوصول إلى الماء، ‏{‏أو على سفر‏}‏ لم تجدوه فيه، ‏{‏أو‏}‏ كنتم في الحضر مُحدِثِين حيث ‏{‏جاء أحد منكم من الغائط‏}‏، أو البول، أو بغيره من الأحداث، ‏{‏أو لامستم النساء‏}‏ أي‏:‏ مست بشرتكم بشرتهن، بقصد اللذة أو عند وجدانها، وبه قال مالك‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ ينقض مطلقًا، قصد أم لا، وجد أم لا، ولو بميتة، وقال أبو حنيفة‏:‏ إن كانت ملامسه فاحشة بحيث يحصل الانتشار نقضت، وإلا فلا‏.‏

وقال ابن عباس والحسن البصري ومحمد بن الحسن‏:‏ لا تنقض الملامسة مطلقًا، ويقاس على اللمس سائر نواقض الأسباب، فتحصَّل أن «أو» تبقى على أصلها من التقسيم، فتكون الآية نصًا في تيمم الحاضر الصحيح، وبه قال مالك، ولا يعيد‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ يُصلي بالتيمم ويُعيد، وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يُصلي حتى يجد الماء، ومن قال‏:‏ «أو» بمعنى الواو فخروج عن الأصل بلا داع‏.‏

ثم قيّد التيمم في هذه الأحوال بفقد الماء، فقال‏:‏ ‏{‏فلم تجدوا ماء‏}‏ كافيًا، أو لم تقدروا على استعماله، ‏{‏فتيمموا‏}‏ أي‏:‏ اقصدوا ‏{‏صعيداً طيبًا‏}‏ أي‏:‏ ظاهرًا، وهو ما صعد على وجه الأرض من جنسها؛ كتراب، وهو الأفضل، وثلج وخضخاض وحجر ومدر، لا شجر وحشيش ومعدن ذهب وفضة، وما التحق بالعقاقير، كشب، وملح، وكبريت، وغاسول وشبهه، فلا يجوز‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ بكل شيء من الأرض وما اتصل بها كشجر وكُحل، وزنيخ، وشب ونورة، وجص، وجوهر، إلا منخالة الذهب والفضة والرصاص‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ لا يجوز إلا بالتراب المنبت خاصة، وبه فسر الطيب، واشترط علوق التراب بيده، ولم يشترطه غيره‏.‏

ثم علّم الكيفية فقال‏:‏ ‏{‏فامسحوا بوجوهكم وأيديكم‏}‏‏.‏ قال مالك‏:‏ اليد اسم للكف بدليل قطع السارق منه، فجعل المسح إلى المرفق سنة‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ فرض، قياسًا على الوضوء، ‏{‏إن الله كان عفوًّا غفورًا‏}‏ فلذلك يسَّر عليكم ورخص لكم في التيمم‏.‏

الإشاره‏:‏ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا صلاة الحضرة القدسية، وأنتم سكارى بحب الدنيا الدنية، حتى يذهب عنكم سُكر حبها، وتعلموا ما تقولون في مناجاة خالقها، ولا جنبًا من جنابة الغفلة، إلا ما يمر بالخواطر على سبيل الندرة والقلة، حتى تغتسلوا بماء الغيب، الذي يحصل به طهارة الجنان، ويغيب المتطهر به عن رؤية الأكوان‏.‏ وإليه أشار ابن العربي الحاتمي‏:‏ كما في طبقات الشعراني، ونسبها غيرُه للجنيد رضي الله عنهم أجمعين وهو الأصح بقوله‏:‏

تَوَضَّأ بماءِ الغَيبِ إن كُنتَ ذا سِرٍّ *** وإلاَّ تَيَمَّم بالصَّعِيدِ أو الصَّخر

وقّدَّم إمَامًا كُنتَ أنتَ إمَامَه *** وصَلِّ صلاة الظُّهرِ في أولِ العَصر

فَهَذِي صَلاةُ العَارِفينَ بربّهِم *** فإن كُنتَ مِنهم فانضَحِ البرِّ بالبَحر

أي‏:‏ إن لم تقدر على الطهارة الأصلية؛ وهي الغيبة عن الأحداث الكونية، فاقصد العبادة الحسية، وقَّدم الشريعة أو من قام بها من أهل التربية النبوية أمامك، بعد أن كان يطلبك من قبل أن تعرفه، وأجمع ظُهر الشريعة لعصر الحقيقة، فهذه صلاة العارفين، فإن كنت منهم فانضح بَرَّ ظاهرك بحقيقة باطنك، فما كمن في غيب السرائر ظهر في شهادة الظواهر‏.‏ لهذا أشار تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏وإن كنتم مرضى‏}‏ بحب الهوى، ‏{‏أو على سفر‏}‏ في عجلة شغل الدنيا، أو جاء أحد منكم من غائط الحس، أو لامستم العلوم الرسمية، وانطبع صُورُ خيالها في قلوبكم، ولم تجدوا من يسقيكم ماء الغيب، وهي الخمرة الآزلية، فاقصدوا الأعمال الحسية، فلعلها توصلكم إلى الأعمال الباطنية، ‏{‏إن الله كان عفوًا غفورًا‏}‏، وفي الحِكَم‏:‏ «كيف يشرق قلبٌ صورُ الأكوان منطبعة في مرآته‏؟‏ أم كيف يرحل إلى الله وهو مكبل بشهواته، أم كيف يطمع أن يدخل حضرة الله وهو لم يتطهر من جنابة غفلاته‏؟‏ أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته‏؟‏»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 45‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ ‏(‏44‏)‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا ‏(‏45‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ دخلت الباء على الفاعل في ‏{‏كفى بالله‏}‏، لتضمنه معنى أكتف بالله وكيلاً‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله ‏{‏ألم تر‏}‏ يا محمد، أو يا من يسمع، ببصرك أو بقلبك ‏{‏إلى‏}‏ حال ‏{‏الذين أوتوا نصيبًا‏}‏ يسيرًا ‏{‏من‏}‏ علم ‏{‏الكتاب‏}‏ أي‏:‏ التوراة، وهم أحبار اليهود، ‏{‏يشترون الظلال‏}‏ بالهدى، أي‏:‏ يستبدلونها بها بعد تمكنهم منها عادة، ‏{‏ويُريدون أن تضلوا السبيل‏}‏ أي‏:‏ الطريق الموصلة إلى الحق، أي‏:‏ يتمنون انحرافكم عنها، فإذا سمعوا عنكم ما يحرفكم عنه فرحوا واستبشروا، لأنهم انحرفوا عنها فحرفوا كتابهم وبدلوا، فتمنوا أن تكونوا مثلهم، فاحذروا ما يتوقع منكم أعداؤكم، فإن الله أعلم بهم منكم، فسيكفيكم الله أمرهم، فثقوا به وتوكلوا عليه، فكفى بالله وليًا وكفى بالله نصيرًا، فسيتولى أمركم وينصركم على من عاداكم‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ من شأن أهل الإنكار، ولا سيما من سلف له في أسلافه رياسة أو إظهار، إذا سمعوا بأهل النسبة وقع لهم شيء من الأكدار، فرحوا واستبشروا، وودوا لو حادوا كلهم عن سبيل الحق، والله مطلع على أسرارهم، وكاف بأسهم وشرهم، ‏{‏وكفى بالله وليًا‏}‏ لأوليائه ونصيرًا لأحبابه، والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏46‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏من الذين هادوا‏}‏‏:‏ خبر عن محذوف، أي‏:‏ منهم قوم يحرفون، أو بيان للذين قبله، أو متعلق بأعدائكم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ من اليهود قوم تمردوا في الكفر؛ وهم أحبارهم، ‏{‏يُحرّفون الكلم‏}‏ وهو التوراة ‏{‏عن مواضعه‏}‏ أي‏:‏ يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها، بإزالة لفظه أو تأويله‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏(‏لا يقدر أحد أن يُحرّف كلام الله ولكن يفسرونه على غير وجهه‏)‏، ‏{‏ويقولون‏}‏ لمن دعاهم إليه، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏سمعنا‏}‏ قولك، ‏{‏وعصينا‏}‏ أمرك، ‏{‏واسمع‏}‏ منا ‏{‏غير مسمع‏}‏ قولك، أي‏:‏ لا نلتفت إليه، أو دعاء بالصمم‏:‏ أي‏:‏ لا سمعت، أو غير مسمع منا مكروهًا، نفاقًا، ويقولون له مكان انظرنا‏:‏ ‏{‏راعنا‏}‏ قاصدين بذلك الشتم والسخرية، من الرعونة، وقد كان الصحابة يخاطبون به الرسول عليه الصلاة والسلام ومعناه‏:‏ انظرنا‏.‏ أو راعنا بقلبك، فوجد اليهود بها سبيلاً إلى الشتم، فنهاهم الله عن ذلك، وبقيت اليهود تقولها شتماً واستهزاءً ‏{‏ليًّا بألسنتهم‏}‏، أي‏:‏ فَتلاً لها عن معناها، من الانتظار إلى ما قصدوا من رَميِه بالرُّعُونة، ‏{‏وطعنًا في الدين‏}‏ أي‏:‏ استهزاء به، ‏{‏ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا‏}‏ مكان سمعنا وعصينا، ‏{‏واسمع‏}‏ منا فقط، مكان‏:‏ واسمع غير مسمع، ‏{‏وانظرنا‏}‏ مكان راعنا، ‏{‏لَكَانَ‏}‏ قولهم ذلك ‏{‏خيرًا لهم وأقوم‏}‏ وأعدل، ‏{‏ولكن لعنهم الله‏}‏ أي‏:‏ طردهم وأبعدهم بسبب كفرهم، ‏{‏فلا يؤمنون إلا‏}‏ إيمانًا ‏{‏قليلاً‏}‏ لا يعبأ به وهو الإيمان بالبعض والكفر بالبعض من الآيات والرسل‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ والله ما ربح من ربح، إلا بالأدب والتعظيم، وما خسر من خسر إلا من فقدهما‏.‏ قال بعضهم‏:‏ «اجعل عملك ملحًا، وأدبك دقيقًا»‏.‏ وآداب الظاهر عنوان آداب الباطن، ويظهر الأدب في حسن الخطاب، ورد الجواب، وفي حسن الأفعال، وظهور محاسن الخلال‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏